6 سنوات على الحرب والاحتلال: هل كان صديقي مجنوناً ؟

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
17/04/2009 06:00 AM
GMT



التقيت مصادفة أحد أصدقائي القدامى من الذين فرقت ما بيننا الحياة والاهتمامات والمهنة. وقد تبين لي من هذا اللقاء أن صاحبي الذي كان مجادلا شرسا ضد أي كلام يصدر عن المثقفين لعدم ثقته بهم، على الرغم من أنه كان يجد تسلية كبيرة في رفقتهم، كان قد فقد أي اهتمام ما عدا استغرابه الشديد من زمانه.
 بدا لي أشبه بأولئك المروبصين الذين تلح عليهم كلمات بعينها يرددونها من دون أي احساس بأنهم لا يقولون أشياء مفهومة، وعلى هذا النحو فقدوا الصلة بالآخرين، وكلماتهم المستعادة هي وحدها التي يطمئنون لها، كلمات تكاد تشبه القراد الملتصق على ألسنتهم.
 قبض على يدي بقوة وحميمية وراح يقول: مستحيل، غير معقول، لا يصدق، لا، لا، مش معقول!
 بدت الجملة الأخيرة (مش) معقولة بما يكفي أن أضحك، إلا أنه اعتقد أنني رحت أتفاعل معه. والحال أنني  اعتقدت أنه كان يبدي دهشته من مصادفة هذا اللقاء بعد أكثر من عشرين عاما لم نلتق فيها قط. ويبدو أنني كنت مخطئا، إذ كان يشير الى الخارج، الى السماء، الى البيوت، وعبر كل هذا  أراد أن يقدم  البرهان على أن كل شيء تغير في رمشة عين.
 وبعد أن فهمت رحت أنا الآخر أردد بمجاملة غبية : نعم نعم، هذا صحيح، كل شيء غير معقول، الحياة غير معقولة وسخيفة.
 فجأة ضغط على يدي بقوة مستدركا شيئا خطر له مما اعتقد أنه يخص نقاشاتنا السياسية القديمة، قال وكأنه يلومني عن أخطاء فكرية اقترفتها أنا وأبناء جيلي : أتذكر؟ هذا ما قلته لكم مئات المرات، لا يمين ولا يسار، الوسط ، النسيم العليل، البغداديون الذين راحوا ضحيتكم.
ابتسمت ابتسامة عريضة يائسة. فهمت أن الرجل فيه مسّ. لكن من منا لم يعد فيه مسّ؟ أنا نفسي أفقد الطريق أحيانا بين سياقات الكلام ، هذا الذي قيل في الماضي والتفوهات والقضايا المهاجرة منه الى الحاضر، ثم القفز من هناك الى هنا، من دون احساس بالزمن ولا بالسياقات، كأنني مازلت في مقهى البلدية أو ابراهيم أو المعقدين، وكأنني أكمل نقاش البارحة: هل تتذكر.. ألم أقل لك هذا قبل ألف عام!
ماذا أقول؟ الماضي لا يستعاد، لقد دخل الى أفقه وغاب. لكنه قد يظل يعمل، فيستعاد على هذا النحو من السقوط المجنون المفاجئ . إنها حالة عراقية نشترك فيها جميعا، ولعلها حالة عربية أيضا، فنحن لما نستنزف ماضينا بعد، ورصيدنا من الحاضر والحداثة مشكوك فيه.
سألني وهو ما زال يقبض على يدي اليمنى : هل ما زلت يسارياً؟ أجبته بالنفي. فتذكر وقال: آه.. صحيح.. أصبحت وجودياً! قلت: لا.. لم أصبح وجودياً. إذن أصبحت بعثياً؟ ولا هذه أيضاً. من جماعة فخري كريم؟ لا..لا. فسألني وهو يتصنع البراءة : ولكن اسمك موجود على جريدته؟ أجبته : أنت تعرف بأنني صحفي محترف، أعمل لأنني يجب أن أعيش ، لو كان لي تقاعد ما عملت وأنا في هذا العمر. ثم أنني أعمل في جريدة مستقلة، وأكثر من هذا حافظت على استقلالي فيها.
ـ لعلك تؤيد المؤتمر الوطني.. ها؟
ـ بالطبع لا. ماذا تقول؟
ـ أنت سني فهل أصبحت من الوهابيين أو متعاطفاً معهم ؟
 أجبته مع القليل من الغضب : ما معنى هذا، ماذا تريد من هذه الأسئلة؟ فاستحلفني بروح أبي الطاهرة أن أجيب ولسوف أعرف النتيجة سريعاً. أجبته : لا والله، أنا كما أنا، وحيد ويتيم ومستقل وأشكو من آلام الشيخوخة ومن نضوب في الحب والخيال وعدم الثقة بأحد، كما أنني لا أحب أحدا من الأحزاب لا في الحكومة ولا في المعارضة! فاحتضنني وقبلني وقال : أنت مثلي إذن، أنت حبيبي، الآن أستطيع أن أثق بك، الآن أستطيع أن أسألك سؤالاً يعذبني منذ أن دخل الامريكان ولم أجد الجواب الشافي له، فكل الأجوبة التي أقلبها في رأسي غير معقولة.
قلت في نفسي بدأ الجد ، والجد المجنون المدعوم بالمعلومات هو الأسوأ في الحالة السياسية العراقية. أطلق سراح يدي وراح يستعد لكلام بدا من تعابير وجهه أنه يحظى عنده بأهمية خاصة جداً، أهمية أن يرفع رأسه الى السماء في نظرة تأملية استعدادا لإلهام ما. قال:
ـ أعرف أنك منذ افلاطون كنت تكره الأمريكان، وكنت تتهم هذه الجهة أو تلك بأنها عميلة للأمريكان.. وكنت أجادلك بأن كراهيتك هذه لا تتفق مع تبنيك للفكر العقلاني.. أنت تعرف.. هذا الذي كنت تتحدث عنه.. أظن أنه الادراك الحسي ومن ثم يقينه العقلي، ولابد أنك تتذكر هذه النقاشات. وقد فهمت من مقالة لك قرأتها في جريدتكم المدى أنك ما زلت مصرا على موقفك القديم. لا أريد أن أحاججك في هذه المسألة، فبعد أن جاء الامريكان بأقدامهم الى هنا، فإن كل شيء يبدو محيراً، لكني اكتشفت بأنك كنت مخطئاً بتصوراتك عنهم، والسؤال الخطير الذي ألح في ذهني منذ دخولهم : أين هم عملاؤهم الذين كنت تخيفني منهم ، فلو كان لديهم عملاء كما تدعي لما حصل ما حصل ، فمن غير المعقول أن أمريكا تعمل ضد نفسها وتجعل من العراق دخانا. الا يقولون أن لديها مصالح حيوية؟ السؤال : لماذا لم يكن عندهم عملاء إذا ما كان الجميع الذين أراهم اليوم هم عملاء الى جهة ما. هذه القضية تحيرني : أين هم عملاء أمريكا في هذه الفوضى؟
هل هذا من الجنون؟ لعله كذلك، الا أنه سؤال تراجيدي أيضا، ولابد من أخذه مأخذ الجد واختباره على قاعدة التراجيديا العراقية التي يصبح فيها الوجود غياباً والغياب وجودا، وأكثر من هذا، لا يعود فيها الغائب والحاضر غير أشباح. لكن صديقي الذي لا أعرف ماذا يعمل الآن، والذي أتذكر بالكاد أنه كان يناكدني بعبارة النفري (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) لكي أنافسه على حل لغزها، وقد نسيت اسمه كعادتي في نسيان الأسماء والتواريخ، صديقي هذا يريد مني جوابا شافيا ومباشرا على سؤاله المشفوع بتطويحات الى عمق الشارع من يده لكي يدلني بالبرهان على أن الحالة لا تطاق، وأن ثمة خطباً في العراق لا يفهم لغزه.
في حدود بناء كلماته يبدو أن عملاء الأمريكان اختفوا أو لا وجود لهم، ويبدو أنني كنت مخطئا أو متوهما أو أن ثورويتي القديمة صورت لي تخيلات مرعبة عن عملاء أمريكا القادرين على صنع المعجزات، وها أنا أعرف الآن أنهم غير موجودين بدليل هذا الخراب والموت المجاني الذي يحيطنا.
لو كان عملاء أمريكا موجودين هل كنا ننعم بالأمن والسلام ؟ أية اسئلة هذه !
 إن من لا يعرف العراقيين لن يفهم دوافع مثل هذه الأسئلة الغريبة . حتى بين أفضل العقلاء الذين عرفتهم توجد أسئلة مثل هذه . هناك وعي بالمأزق العراقي يكتفي بصياغة اسئلة غير معقولة لكي يعفي نفسه من الجواب . الكثير من الناس يفضلون انعدام الجواب على وجود اجابة موجعة تعني : لقد خدعتم .. فكل ما حدث أراده الأمريكان أن يحدث ! ومن يريد أن يبدو مخدوعا اذا كان يعتقد أنه حر ، وأنه ربما يدفع تكاليف حرية لم يعهدها في حياته . لتكن أسئلتنا إذن من قبيل الاستغراب وعدم الفهم وليس معدة للتشكيك بالحرية !
منذ الاحتلال الأمريكي والعراقيون العقلاء الذين رحبوا بسقوط النظام  يتساءلون عن سر هذا الخراب الذي حدث من دون مسوّغ . لقد حررهم الأمريكان لكن أضافوا الى أعبائهم الثقيلة أعباءً لا قبل لهم بحملها .  إنهم لا يريدون العودة الى الماضي ولا يعرفون كيف يتقدمون الى المستقبل وسط هذا الخراب الشامل . انهم يطرحون اسئلة ، واسئلة مجنونة .
أليس من الأفضل أن نقود هذا الجنون ؟ ان مشكلتي مع صديقي لم تحل بعد !
بدمج المغزى والمبنى من سؤال صديقي، فإن أرجح الاحتمالات هي أن نعد وجود عملاء أمريكا من صنف الوجود الأوديبي المشروح في تراجيديا سوفوكليس . ولست متأكداً فيما إذا كانت العبارة التي تصف مأزق أوديب أنقلها هنا حرفيا أم بمعناها :( لقد وجدت من دون أن أكون!) ـ ولربما هذا التثبيت الاضافي ـ : ( لقد ظهرت وبعد أن ظهرت أخفقت!)
 يميًز سوفوكليس ما بين الوجود والكينونة، ويماثل ما بين الوجود والظهور. وحدها الكينونة معنية بالوجود الفاعل وتعدد الامكانات والخيارات. لا مناص إذن على مستوى التجربة الشخصية التي يعارضها الحظ والمنبت من الإخفاق.
لعل هذه الملاحظة هي أقل من استطراد معرفي، بل هي عدوى انتقلت إليّ من مجنون متسائل( ولم لا ؟ إن لي شهية مؤجلة في أن أكون حراً) نحن على أية حال نتحدث في حقل السياسة، أي في حقل صراع القوى وامتلاك السلطة. ولسوف أنتهي (ولا أعرف كيف في هذه اللحظة ) الى المشكل الأصلي من هذه الحكاية الجنونية، فهي تقع في نفس الإطار. إن صاحبي المجنون نفسه هو مجرد دالة مهملة على قارعة هذه الدراما السياسية من حيث التعريف. ومن أكون أنا وقد خضعت قبل قليل لتدقيق كامل لهويتي السياسية، وتبين أنني لست ولست ولست، وقد ثبت أنني فارغ، وكل سؤال عن كينونتي السياسية يزيد من افراغي، وإنني لأشعر بأنني فارغ، والغريب أنني لست حراً أيضاً، وأقول هذا لأن من تفرغ كينونته السياسية في العراق يشعر أنه في حكم ليس، إذن هو حر. إن صديقي المجنون هو أكثر حرية مني ما دام قد اختار الرحيل. ترى من أجل ماذا أنا ماكث وطال مكوثي؟       
والآن بماذا أجيب على استفسار صديقي الذي بدأت أراه على نحو جديد ؟ بطعنة؟ بمفارقة؟ أم بدفع الجنون الى قاعدته الأصيلة، أي إلى عقل يعالج جنونه، فينداح على الأطراف، قالباً الصور، مبعثرها في العبارات كعبارة النفري المدهشة والغامضة والمستحيلة؟ 
قلت : أخشى يا صديقي أن أعترف لك بأنني بدأت أشك في أن يكون للأمريكان أنفسهم وجود حقيقي في العراق!
فاسترد عقله في هذه اللحظة مرة واحدة ، وأعني هنا أنه اعتمد مبدأ المحسوس على المحاكمة العقلية، فراح يصرخ في وجهي مرددا : والدبابات والدبابات والدبابات !
لكن فات الأوان فقد أخذت دوره وقلت : الدبابات لا تثبت شيئاً، بل لعلها اثبات على عدم الوجود. لا تناقض نفسك، فقد قلت توا أشياء عظيمة، واصل هذا الخط عندها تكتشف سر الفوضى!
كلماتي الأخيرة أصابته بالثول. كنت قد بدأت أفهم مشكلته، وأحسب أنه من دون أن يعلم عرّفني على إمكانية أن تتحول التورية الى حالة من حالات الوجود المادي بحيث لا يشعر المنتفع منها أنها ما عادت هي نفسها. لعل هذا التحول هو تحول ما هو سياسي الى سيكولوجي، والأخير  يحاول أن يجد تفسيرا بعبارات تلصيقية جاءت من الماضي، من اقتطاع ما، من عذاب ما. حتى السياسيون عندنا يفكرون على هذا النحو .
قبل أن يتهمني مفكر أو مكفر يحمل سكيناً بأنني أزعم هنا بعدم وجود احتلال امريكي للعراق، أقول أن ما كنا نشيعه في الماضي عن الأمريكان وعملائهم، قبل أن يستولي عليها آخرون ناضلوا تحت رايات عديدة ولم ترد الحرية السياسية في قاموسهم، لم يكن سوى توليد حقل سياسي لا تستخدم فيه الخناجر ولا الدبابات ولا الاغتيالات بل الكلمات التي تتعاكس كما في المرايا بالحوادث والتطلعات الخاصة بالحرية. كنا نخاف فنخوّف، وكنا متعصبين لكن بارادة وطنية تستدعي التعلم من دون أن نتلون أو نفسد أخلاقيات مواطنينا.
صمت صديقي الذي ردته كلماتي الى منطق المحاكمات العقلية ثم قال كما لو أنه يزفر: ولكن.. ولكن.. هذا لا يهم الآن.. الآن.. أظن أنك قلت بعبارة أخرى أننا لم نعد موجودين.. أها، أها، هو ذاك.. أها، أها.. وفجأة أطلق ضحكة وحشية وهو يتركني مودعا وقال : الجنة تحت أقدام الأمهات!
فهمت من صيحته الأخيرة المضللة أنه متمسك بجنونه. لقد أراد أن يترك ذكرى عنه كونه لن ينجو أبداً! لكن استنتاجه الأخير، وأظنه قد عرفه طول الوقت، بل كان يعرفه منذ زمن افلاطون، صحيح، إنما لم يستقم بعد، ولكي يستقيم علينا رده الى الحقل السياسي بوصفه حقلا توزيعيا للقوى، أو الى وجودنا بوصفنا كائنات سياسية. إذا ما قمنا بهذا الرد فإن عبارة صديقي ستأخذ الصياغة التالية: لم يعد لنا وجود سياسي!      
 ما هو المفهوم من هذه الحكاية؟ دعوني أردها الآن الى قاعدة الجنون الحقيقية التي انطلقت منها: فعندما دخل الأمريكان الى بغداد لم يجدوا دولة فاستغنوا عنها، ولم يجدوا جيشاً وسلطة فاستغنوا عنهما، ووجدوا شعبا مهزوما خائبا جائعا مغلوبا على أمره منذ زمن افلاطون، فلم يعطوه غير كسلهم الأخلاقي وسوء ارادتهم وادارتهم. لم يتبق لدى العراقيون اطار استناد يعرّف الموقف الجديد، بالأحرى لم يعد لهم سلطة سياسية تهب للحالة الجديدة شكلا من أشكال التوقع والتصرف والقيود والأوامر والنواهي. ومما زاد الأمر سوءاً أنه شعب كان مسيّساً غصباً ولكن من دون حقوق سياسية ومن دون أي مشاعر خاصة بالوجود السياسي المترابط بوطن سياسي، ولعل الأخير كان قد بات أشبه بمنطقة ضعن سيطرت عليها قوة غاشمة. وهذا ما يفسر سقوط الدولة السريع والمهين، وهزيمة جيش قوي ما كان يمتلك غير أفق النظام السياسي الذي حكم طويلا.
في اللحظة التي كانت قوات الاحتلال تتفرج على نهب واحراق مؤسسات دولتنا كف الاحتلال عن أن يصبح تحريرا حسب مزاعمه، ولم يعد يظهر إلا بوصفه قوة. إن صيحة صديقي الثلاثية عن الدبابات يثبت وجودها ثلاث مرات، بما يؤكد الاحتلال، ولكن بما يثير الشكوك في عدم وجود سلطة غيرها. ولأن سلطة الدبابات نفسها لم تستخدم لحماية أمن المواطنين والممتلكات الاجتماعية فلم تعد سلطة بل رموز استعراضية تذكر الناس أنها أنهت توا مهمة موت السلطة في العراق، وأنها لم تعرف غير هذه المهمة التي نفذتها بعشرين يوما، وهذا هو نصرها وأفقها وسياستها وأخلاقياتها الوحيدة.                    
بموت السلطة احتل اللصوص والنهابون ومشعلو الحرائق الشوارع. اختفى المواطنون الذين لم يسمح لهم ولا مرة أن يكونوا مواطنين حقاً ، بمعنى أنهم بلا وجود سياسي ، فجاء اختفاؤهم مضاعفا ، فهم الآن خائفون ومخوفون ، فارغون من الماضي والحاضر والمستقبل ، فلم يعد همهم غير الوجود العاري ، غير ظهورهم الموارب .   
 مواطنون أشباح، ولصوص أشباح ، وقتلة أشباح ، ثم مقاومة شبحية . العراق كله بات حالة تجريبية للتشبيح، لكأن ليالي العراق الظلماء بسبب انقطاع القوة الكهربائية لفترات طويلة باتت تعمل في الحياة العراقية وتشبّحها.  فالأحزاب باتت حرة فإذا بها تحتل الممتلكات العامة لتختفي فيها . الناس عادوا الى مراجعهم الأولية على أعتاب المشروع الديمقراطي الجديد ، مما يعني أننا دفعنا في الزمن الى الوراء. قوى ما قبل الدولة تستخدم الحرية وتتآمر عليها مبكراً. ما من شيء مؤكد حتى عند أصحاب اليقين والمتفائلين منذ عهد آدم . ثم الدبابات والدبابات والدبابات.
في الفراغ السياسي، وفي عملية التشبيح السياسية، اتخذت المعارضة السياسية شكل الارهاب، فما من شكل آخر يمكن أن يتولد من هذه الفوضى غير تحطيم ما هو سياسي : رجال بأقنعة، سيارات مفخخة لم تعد لها أهداف غير أن تحصد الأرواح ورد الفعل لكي تتوغل في التفخيخ، مناطق مقفلة أقفل فيها الحديث عن الحرية والمستقبل وفتح على الأنساب والدين المسيس المحروس بالرشاشات.
.. ثم حصلنا على ابتكارات اللحظة الأخيرة، مجلس الحكم ، حين سلطة سياسية باتت تتشكل ضد التفعيل السياسي، مكتب العلاقات هذا، تقاسم مواقع شبحية، لكنها مواقع على أية حال، مواقع فرص، تفويضات بغياب المفوضين، تفعيل اللاديمقراطي في تأسيس الديمقراطية الجديدة ، جعل المحاصصات الطائفية والقومية عمل تأسيسي فأخذ هذا بدوره يبتلع العمل السياسي ويوجهه توجيها طائفياً . ما الذي حصلنا عليه؟ تخندقات طائفية ، وارهاب منظم لا أفق سياسي له ، وتكاثر غير مسبوق بمنظمات الجريمة المنظمة والمافيات والفساد . على مستوى النقد السياسي لم يظهر على نحو فاعل غير تفسير سياسي واحد يقيم النقد على الانفصال في الخبرة والعيش : جماعة الخارج وجماعة الداخل! وما كان الداخل يعرف شيئا عن الداخل غبر مباهاته الابتزازية كونه عاش في ظل الديكتاتورية وليس ( في فنادق الدرجة الأولى في اوربا) على حد تعبير متفاصح من الداخل، وما كان الخارج قد تعلم من الخارج شيئا حقيقيا يعين الناس في الداخل، وكان على أية حال يبرر وجوده في الخارج بالماضي القمعي . ثم هذا الماضي نفسه ، هذا التراكم للخبرة وتبددها الدائم ، بات وحده في حكم التداول السياسي لأنه يعرّف الهوية السياسية بالموقع (منه) و(فيه) ، وكان مستمرا في نتائجه المروعة، ثم استمر في توزيع جديد، ضيّعت فيه القضايا العاجلة في نزاع مبطن على سلطة لا يمكن اقامتها مجددا بالنزاع ، ولا يمكن أن تولد مجددا الا بوجود عمل وطني سياسي يتصف بالمهارة والاحترافية . لكن في غياب العمل السياسي فإن الأمل غدا وهما أو حلما. إن فكرة الانتخابات نفسها ستتلون كممارسة بلا تاريخ ولا تأسيس اجتماعي سياسي له أفق وطني ، مما يجعل مشكلة التمثيل السياسي مستمرة، بل سوف تثير مشكلات اضافية. ( كتبت هذه المقالة قبل الانتخابات الاولى بقليل )   
في الفوضى، وانعدام أي اطار سياسي وحراك سياسي، وفي لحظة بات فيها الطموح السياسي يدير رأس الرجال ثم يجعلهم وحيدين بلا برنامج تحيطهم السلبية وانعدام الاهتمام، وباتت فيها الروح العدوانية القوة التي تهيمن وتقرر، ظهرت  شخصيات شكسبيرية متنكرة في حفل تنكري. أنا نفسي رأيت دكتورا بدشداشة بيضاء وشماغ أبيض كان يعمل مديرا عاما بالرئاسة الصدامية بات محللا ستراتيجيا، ورأيت أفنديا من الطراز الحديث يتحدث باسم العشائر العراقية، ورأيت واشياً قديما يقدم اطروحات في المجتمع المدني، ورأيت مثقفين عادوا الى الوطن ليفروا سريعا، متحررين من وهم عواطفهم وتعلقاتهم القديمة ، وما عادت أشواقهم لوطنهم ومواطنيهم غير مرض نفسي يحتاج الى علاج عاجل.
من المفهوم أن العراقيين وجدوا أنفسهم ضمن علاقات قوى شكلت حلا موضوعياً في التخلص من الدكتاتورية. إنه حل بواسطة البرابرة، وبدلا من انتظارهم المضني ، واكتشاف أنهم لن يأتوا ، ولن يأتي حل على أيديهم كما في قصيدة كفافي ، جاء البرابرة هذه المرة حقاً ، وانتهى الجدل والانتظار المتعب، ليكتشف الحكماء بعدها أن ليس هذا هو الحل الذين أرادوه ، لأنه كان بربريا حقا، فهو لم يستبدل سلطة بأخرى ، ولم يسع الى تقديم بدائل تتصف بالشرعية ، بل حطم السلطة بالفوضى، وخلق فضاءً واسعاً لا يحده اطار، مع عدم وجود أدلاء ولا بديل غير الانكفاء في البيوت أو الذهاب طوعا واضطرارا الى مراجع ما قبل الدولة التي تيقظت على مصالحها فجأة وقدمت البدائل الرمزية. في فضاء مثل هذا لا يستطيع الأفراد أن يتفاعلوا ضمن أفق سياسي . إن ما ينطبق على الأفراد ينطبق بقوة على القوى السياسية، من هنا رأيناها أصيبت بالشلل ، وأفضل خططها باتت صيحة في البرية، لأنها نفسها تفتقد الى ركائز السلطة واتخاذ القرار ، فضلا عن أنها لم تبحث عن أطر وطنية واسعة بما يقيم نوعا من النظام الشرعي القادر على العمل . ومن البديهي أن أي قرار يحتاج الى جسد سلطة قادر على تنفيذه وقادر على تحويل نفسه الى مرجع للمعرفة عبر بنيته الخاصة المستقلة ، منتزعا شرعيته، في ظروف التحول، من ضرورته المؤسساتية، من مرجعيته العامة المجربة في الأحوال الاعتيادية والطارئة ضمن ميزان قوى انتقالي معلن ومعرّف ، ومن رمزيته المستمرة والممررة عبر قوة جاهزة للعمل حتى لو لم تستخدمها.                 
 اعتقد البعض أن البرابرة لن يأتوا بدباباتهم فقط بل وبجوقة عزف وخبراء في السياسة والاقتصاد والمال والتجارة والثقافة والاعلام والمجتمع والسلوك الجمعي والانثروبولوجي. هذا ما فعله نابليون قبلهم بنحو قرنين. لكن برابرة القرن الواحد والعشرين امتلكوا أعظم معارف عصرهم لم يأتوا الا بالقوة المسلحة ولم يظهر منهم أي اهتمام الا من خلال هذه القوة وحدها ، فتقرر من الآن اخفاقهم السياسي الذي انسحب على القوى السياسية التي ساندتهم أو فاوضتهم أو استسلمت للأمر الواقع وتعاملت مع نتائج حدث غير عادي يتجاوزها ولم تعد تفهم أفقه وسط الخراب الكبير.         
هذه النتيجة البائسة أثارت الاستغراب ، فهي غير متوقعة ، كما أنها تستعصي على التحليل من منطلقات حدث حمل رسالة الحرية والديمقراطية ، فإذا هو بالعكس هدّ أنظمة كانت تعمل وكان بامكانها مواصلة العمل ، وعمم حالة من الفوضى أمدت الارهاب ببيئة صالحة للعمل ، ودمر بالمقابل بيئة العمل السياسي، ثم خلق انشقاقات ذات أفق طائفي ومذهبي كانت نائمة أو ملجومة في العهد السابق ، فضلا عن أنه قوى امتدادات المحيط الاقليمي بعد أن أشعره بالخطر وأمده بالتبريرات.  
صديقي المجنون الذي أعاونه الآن لكي يعيد صياغة أسئلته أو أدفعه الى المزيد من الجنون كان قد فكر ازاء الوضع الذي خلقه الاحتلال بطريقة الاستدلالات المنطقية، مما يعني أنه لم يفرّ بعيدا جدا مما هو جوهري، هذا الذي يمكن تلخيصه بسؤال قيمة وليس بسؤال معرفة : هل هذا معقول؟ لأنه في أي تحليل يأخذ بالحسبان أن الفعل السياسي يستند على المعقولات وليس على الجنون، سيرى أن الامريكان ما أن ربحوا الحرب حتى خسروها في السياسة. وببساطة شديدة ظهر الامريكان بعد نصرهم العسكري بلا ذرة من فكر سياسي. هذه النتيجة تبدو معاكسة ولا تستقيم مع مجموعة التبريرات والدعاوى التي أدت بالولايات المتحدة الى أن تخاطر بجنودها وتثير انقسامات دولية وتراهن على سمعتها الدولية في شنها الحرب على العراق، وأولها مفهوم المصلحة الأمريكية غير المتنازع عليه، ثم مجموعات الإسناد السياسية الأخرى ، من مثل إقامة دولة ديمقراطية على انقاض نظام دكتاتوري حكم طويلا، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، والقضاء على الارهاب في المنطقة والعالم، فضلا عن قضية أسلحة الدمار الشامل البائسة.              
والآن فإن سؤال القيمة العقلاني نفسه ينفتح على سلسلة من التفسيرات والقرائن التي راحت تستخدمها قوى سياسية كبيرة في الداخل والخارج، من مثل : المؤامرة ، النفط وحده هو ما يريدون وعلى العراق يقرأ السلام، البنتاغون الذي يسيطر عليه اليهود ، التحالف التلمودي البروتستنتي الذي يمثله المحافظون الجدد، عملاء اسرائيل الذين جاؤوا مع القوات الأمريكية ، من النيل الى الفرات أرضك يا اسرائيل. وعلى الجملة ظهرت تشكيكات بالمشروع الأمريكي لا تعدو فيها تساؤلات صديقي المجنونة سوى محاولة بريئة ، سوى كناية نست ترابطاتها بسبب الحاحات عقلية وحكايات جاءت من ماض بعيد . إن قوة هذه التفسيرات لا تتمثل بوجود معلومات مؤكدة بل بشواهد اللامعقولات المتوفرة على أرض الواقع هنا والآن والتي لا يمكن مجادلتها بغير: نعم.. نعم.. هذا صحيح.. ولكن..!
ولكن ماذا؟ في غياب الدولة والسلطة نحن ندور دورة كاملة ونصل الى النقطة نفسها. كل نقاش يبدو محرجا وناقصا ولا نستطيع توجيهه. تلك حالة أن نمتلك رأسا بلا جسد. كان صديقي الفنان علي طالب يصوّر رؤوسا بلا أجساد. إن هذه الدراما تثير مشكلة الارادة والسلطة، وكم يبدو تراجيديا تماما أن يناضل اناس ضد سلطة كانت تقهرهم، فإذا بهم بغيابها الكلي يجدون أنفسهم بحاجة الى شيء منها، من أطرها والزاماتها القادرة على تشكيل اتجاهات نمو وتعريفات للمواقف وتحديدها. إن المعارضات والاتفاقات قائمة في حقل ميزان قوى يتعدل أو يأخذ اتجاهات محددة في مجتمع له هياكل سلطة لها قدر من الشرعية. نحن هنا لا نتحدث بمعيار المرجع الذي نختاره فقط، بل باطار وسط سياسي كامل لا يستطيع الناس أن يتفاهموا أو ينتجوا أو يتبادلوا المعارف والخبرات من دونه. ليست موضوعات الخيارات الحرة والحرية والديمقراطية والانتخابات والبرلمان ونظريات الحكم  سوى موضوعات معرفية عامة، وهي تأخذ معانيها ودلالاتها ومعاييرها والسلوك المتبع في ترجمتها وجدولة أهمياتها من حقل قوى تكون السلطة والدولة واحدة من مكوناته الأساسية. ولست أدري في الشروط الحالية كيف يمكن لأي جدل سياسي أو مشروع سياسي في اطار وطني عام أن يكون ذا معنى في غياب الدولة والسلطة، فضلا عن غياب اتفاق وطني بشأنهما وبشأن عدد هائل من القضايا التي أثارها الاحتلال. إن الانحراف السياسي في استبدال لغة الحوار بجرائم الاغتيالات والتفجيرات والسيارات المفخخة يعكس غياب سلطة قادرة على أن تكون حكماً أو تنزل حكماً تجتمع عليه جماعة سياسية ناشطة وليس مجرد جماعة تحمل اسما سياسياً لا وجود فاعل لها في الحياة الاجتماعية والسياسية.  
أرجو أن يقرأ صديقي الذي نسيت اسمه هذا الموضوع ليعرف حقيقة مشكلتي معه ، عندها سيعرف أنني أكثر منه عجبا من زماننا هذا، وأكثر يأساً، وأنني لم أغير رأيي بالأمريكان ولا بعملائهم الحمقى ، وأنني في النهاية أحب أن أكون من جماعة أم كلثوم وأغني الأطلال على أن أكون من سياسيي وارهابيي هذا الزمن.. وآه لو يعرف كم  أحسده لأنه قرر أن لا يشفى ، وإنني لأحييه مردداً صرخته العجيبة : الجنة تحت أقدام الأمهات!  
                             بغداد - 2005